بحـث
التبادل الاعلاني
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر
لا يوجد مستخدم |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 7 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 7 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الخميس أكتوبر 03, 2024 9:22 pm
®{ منتدى الحكمة للثقافة والفنون}
حقوق الطبع والنشر©2013
الساعة الأن حقوق الطبع والنشر©2013
صالح الشرقي الملك الحسن الثاني كان عازف أكورديون وضابط إيقاع بارعا
صفحة 1 من اصل 1
صالح الشرقي الملك الحسن الثاني كان عازف أكورديون وضابط إيقاع بارعا
صالح الشرقي عازف القانون المغربي: الملك الحسن الثاني كان عازف أكورديون وضابط إيقاع بارعا
* توفي أبي وأمي وأنا في السابعة من عمري.. ولجأت إلى ميتم خيري في الدار البيضاء * الحسن الثاني اقترح على المطربة صباح أن تغني بصوتها أغنية «ما أنا إلا بشر» لعبد الوهاب الدكالي فحققت انتشارا واسعا
التقاه في الرباط: بوشعيب الضبار
رغم أنه باحث وملحن ومؤلف موسيقي، فإنه اكتسب شهرته من إجادته التامة لعزف آلة القانون. فاسم الفنان صالح الشرقي تنطبق عليه تماما، صفة «أشهر من نار على علم»، فهو عصي على التقديم، لغزارة عطائه وبهاء حضوره على الساحة الفنية المغربية، لذلك يحار المرء في الإمساك بتجربته، وهو الذي يجر وراءه تاريخا موسيقيا كبيرا، حيث ساهم، لسنين طويلة، إلى جانب رفاقه القدامى في جوق الإذاعة والتلفزيون، في خلق الزمن الجميل للأغنية المغربية في لحظة التأسيس. يكفي أن أم كلثوم غنت من ألحانه أغنية تحمل توقيعه وبصمته الموسيقية، وأن الموسيقار محمد عبد الوهاب أشاد به وبعبقريته في الموسيقى، وامتلاكه لناصية التأليف في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني.
«الشرق الأوسط» التقت به في أمسية رمضانية، وأجرت معه هذا الحديث المفعم بالذكريات:
* كيف بدأت رحلتك مع آلة القانون؟
ـ أنا في الحقيقة لم أكن عازفا على القانون، بل على آلة العود.
* ما هو سبب التحول إذن؟
ـ في فترة الدراسة الفنية، كان هناك زميل في القسم، هو الذي يتدرب على آلة القانون، ولكنه ضعيف في الحفظ، ولا يستوعب الدرس جيدا، فكلفني أستاذ الحصة بالمراجعة معه، مقابل مكافأة صغيرة. استحسنت الفكرة، واقترحت على زميلي استبدال الآلتين، هو يأخذ العود، وأنا أتولى العزف على القانون، مع التخلي عن المكافأة التي كانت تسمح لي بالدخول إلى السينما. وهكذا بدأ الرحلة التي ما زالت مستمرة حتى الآن.
* من هو أستاذك ومكتشفك؟
ـ المرحوم الأستاذ أحمد زنبير، الذي قدم لي كل أشكال الدعم والمساندة، بعد أن لمس ميلي الشديد وشغفي الكبير بالموسيقى.
ثم تتلمذت أيضا على يد أستاذ فرنسي اسمه جاك بيكار، وفيما بعد سنحت لي الظروف بالاستفادة أيضا من الفنان المغربي الراحل أحمد البيضاوي، رئيس الجوق الوطني.
* ماذا يمثل القانون بالنسبة لك؟
ـ أحمد الله كثيرا لأنه ألهمني وهداني إلى اختيار القانون، الذي يشكل بالنسبة لي الرفيق والصديق الوفي الذي أبثه كل ما أحس به من مواجع وأحاسيس. ونظرا لهذه العلاقة الوطيدة فأنا منهمك هذه الأيام، في إصلاح وترميم قانون قديم دخل المغرب، عام 1916، أتى به المرحوم مرسي بركات، رئيس «الجوق العصري» في عهد الملك الراحل محمد الخامس.
إنني أقوم بمعالجته حتى يحس هو الآخر أن له صديقا يرعاه كي تعود إليه الحياة، ويصدح بالأنغام من جديد.
* هل أصبح القانون مهددا بالاندثار في زمن الإيقاع الموسيقي السريع؟
ـ هذا صحيح، وقد بدأت مؤشرات اندثاره تترسخ يوما بعد يوم، وتنبئ بالاستغناء عنه، بعد أن استولى «اللورغ» على مكانته، لقدرته على التلاؤم مع الموسيقى الخفيفة.
ويبدو أن عصر القانون قد رحل إلى الأبد، فهو كمكون أساسي من مكونات فرق الأوكسترا، لا ينسجم إلا مع الموسيقى الكلاسيكية والطرب الحقيقي والموسيقى العربية على اختلاف تلويناتها، من قصائد وأدوار وموشحات، وغيرها، وكلها آخذة في التراجع عن الحلبة لفائدة هذا النوع الموسيقي العصري الصاخب.
* يبدو أنك من معارضي أغاني «الفيديو كليب» العربية؟
ـ أغاني «الفيديو كليب» جنت على الذوق العربي العام، وعلى الشباب العربي أخلاقيا وفنيا بسبب الفضائيات التي لم تأخذ من الغرب سوى القشور.
شخصيا، لا أسمح لنفسي برؤية هذا المنكر الذي يتجسد في مغنيات رأس مالهن الوحيد هو الكشف عن مفاتنهن والتمايل بغنج ودلال، في شرفات غرف النوم وشواطئ البحر.
هذا فن ممسوخ، بل إنه من أقبح أشكال الانحطاط والانحلال والإباحية في طبق من الإبهار والإغراء.
* ماذا تقول عن المطربة نانسي عجرم؟ ـ نانسي عجرم؟ من هي؟ صدقني، أنا لا أعرفها، لقد تكاثرت الأصوات لدرجة أن ذاكرة المرء لم تعد قادرة على استيعاب هذا الطوفان من الصور والألوان.
في الماضي كان ظهور أي صوت جديد يشكل حدثا فنيا في حد ذاته، وحين تذيع الإذاعة أغنية جديدة لنور الهدى أو عبد الحليم أو أم كلثوم، أو فريد الأطرش، تجد الكل يرددها في مشارق الأرض ومغاربها.
اليوم نسمع ونرى عشرات الأغاني في اليوم الواحد من دون أن نلمس أي جهد، أو إشراقة فنية إبداعية في واحدة منها على الأقل.
* لو عاشت أم كلثوم، حتى الآن، هل يمكن لها أن تجد لنفسها موقع قدم وسط هذه الزحمة؟
ـ لو امتد العمر بأم كلثوم، لماتت بالحسرة، إزاء بيع أغانيها، في أسطوانات مدمجة، مقرصنة بأرخص الأثمان، وتباع في القفف (السلات) في الأسواق الشعبية والساحات العمومية، والموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب نفسه لو شاهد أشرطته الموسيقية المقرصنة، كذلك، تتداولها أيدي الباعة المتجولين بأرخص الأثمان، لسارع إلى الانتحار على الرصيف، حزنا على مآل الفن، في عصر القرصنة والاتجار في الموسيقى في غياب تفعيل الضوابط القانونية، التي تضع حدا لهذا الانتهاك الصارخ لحقوق الملكية الفكرية والفنية، لفنانين كرسوا حياتهم للعطاء الفني، لينتهي المطاف بعصارة إبداعهم على قارعة الطريق، وبرخص التراب.
* هل هذه الظاهرة هي التي جعلتك تحجم عن الاستمرار في تسجيل أعمالك الموسيقية؟
ـ تماما، لقد انتهيت منذ مدة من إنجاز أول عمل موسيقي مغربي فريد من نوعه، ولكنني ما زلت مترددا في إخراجه إلى حيز الوجود، مخافة أن يتعرض للقرصنة التي أصبحت آفة من آفات العصر، وأداة من أدوات القتل الممنهج للفنان، لأنها تمسه أساسا في مورد رزقه الوحيد.
* ما هي طبيعة هذا العمل الموسيقي الجديد؟
ـ هو، في الحقيقة، مشروع موسيقي كبير، اشتغلت عليه فترة طويلة من الوقت، بحثا وتنقيبا واستكشافا لمختلف الأشكال والأنواع والإيقاعات والمعزوفات في الموسيقى الأندلسية والتراث الشعبي والفولكلور المغربي.
إنه توثيق وتسجيل حي للموسيقى المغربية في أزهى فتراتها، على امتداد السنين والأجيال، وهو في شكل «ألبوم»، يضم ثلاث أسطوانات مدمجة، مع أوراق تعريفية بكل المقامات والتجارب والإبداعات المغربية.
وحتى الآن أتحاشى طبعه أو توزيعه على حسابي خشية أن أضيع في حقوقي، وقد عرضت المشروع على بعض الجهات لتتبناه وتتولى توزيعه.
* أنا والحياة : مرارة اليتيم
* لو عاد بك شريط الذكريات إلى الوراء، ماذا يخطر في بالك عن طفولتك؟ ـ طفولتي كانت قاسية ومؤلمة جدا ومفعمة بالمعاناة، بسبب وفاة أبي وأمي، في عام واحد، وعمري لا يتجاوز سبع سنين. وكان من الطبيعي أن ألجأ إلى ميتم خيري في الدار البيضاء. وأنا فخور بتلك الفترة من حياتي، ولا أخفيها أبدا من سيرتي الذاتية، ففي تلك المرحلة بدأ وجداني يتشكل موسيقيا.
كان الملجأ بمثابة مدرسة أو معهد لاكتساب جميع أنواع المعارف والمهارات والتكوين والتأهيل المهني في جميع المجالات من صناعة وموسيقى وغيرهما.
هناك كبرت قامتي، وكبرت معي رغبتي في التحدي وإثبات الذات، ولكنني لا أنكر رغم ذلك أن شعور الحرمان من الدفء العائلي والعاطفي لازمني فترة طويلة من مراهقتي إلى حين بلوغي فترة الشباب وتحمل المسؤولية.
كانت تنتابني دوما رعشة خوف من الموت والمستقبل. ولم يتبدد هذا الإحساس إلا بعد اقتراني بشريكة حياتي الفقيدة رحمة السحيمي، التي أنستني مرارة اليتم.
كانت امرأة فاضلة، تقدس الحياة الأسرية ولم تحاسبني يوما، عن غيابي، بل كان لسانها يلهج دائما بالدعاء لي بالسلامة في أسفاري. وبعد رحيلها عن هذه الدنيا الفانية أحسست بفقدان جزء كبير من نفسي وعمري، بعد أن أدت دورها كزوجة، وأم، وربة بيت، كما يجب، في توفير الظروف الملائمة والتنشئة الصالحة لأفراد الأسرة.
* لماذا ظل أبناؤك بعيدين عن الموسيقى؟
ـ أنا أشكر الله الذي هداهم إلى الاكتفاء فقط بسماعها من دون ممارستها، فاختار كل واحد منهم طريقه في الحياة بمحض إرادته، وفقا لرغبته وإرادته. وأنا مسرور جدا باختياراتهم، وأدعو لهم دوما بالتوفيق.
* هل مارست يوما ما، عملا غير الموسيقى؟
ـ نعم، حدث ذلك في الأربعينات. كان الوقت وقت حرب وصراعات، وانعدمت الحفلات والسهرات، فتوسط لي أستاذي المرحوم أحمد زنيبر، لأشتغل في النسيج وحياكة الأثواب، ريثما تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها وتستأنف الحياة العادية مسارها.
اندمجت بسرعة في أجواء المهنة الجديدة، وتدرجت فيها إلى أن أصبحت بمثابة رئيس لورشة تضم أكثر من 120 صانعا. وأتذكر أن مدخولي كان جيدا، ويفوق مرتب وزير.
وبعد انتهاء الحرب، حملت آلتي الموسيقية معي لتخفف عني غربتي، وانتقلت للعمل في أحد مصانع النسيج بفرنسا. هناك كانت لي عدة اتصالات بموسيقيين عرب مهاجرين استفدت من التواصل معهم والاحتكاك الفني بهم.
إلا أن هذه الرحلة لم تدم طويلا، إذ سرعان ما قررت الاستجابة لنداء خفي في الأعماق، يلح علي في العودة إلى المغرب، سنة 1950.
وتزامن وصولي مع غرس النواة الأولى لتكوين جوق موسيقي عصري، بمبادرة من الأستاذين عبد النبي الجيراري، وعبد القادر الراشدي، والمطرب اسماعيل أحمد. فكانت الانطلاقة معهم كعازف موسيقي على آلة القانون ولم تتوقف إلا بعد إحالتي على التقاعد.
ومن باب الإنصاف، الاعتراف بأن الجوق الوطني التابع لدار الإذاعة، كان بالنسبة لي بمثابة معهد جديد تعلمت فيه الكثير على يد موسيقيين كبار. ويحز في نفسي اليوم أن أرى هذا الجوق، وهو يتلاشى تدريجيا، ولم يبق فيه سوى عازفين موسيقيين يعدون على أصابع اليد الواحدة. البعض تقاعد، والبعض رحل إلى العالم الآخر، ولم يتم تعويض مناصبهم أبدا بوجوه جديدة وشابة للحفاظ على استمرارية شعلة هذه الفرقة الموسيقية، التي أغنت الوجدان المغربي بأعمال وقطع موسيقية، ما زالت خالدة حتى الآن.
* لماذا هذا الحنين الدائم للأغنية المغربية القديمة عند المستمعين؟
ـ أغنية الأمس كانت أفضل وأجمل وأكثر صدقا وأصالة وإبداعا وجودة. تستمع إليها، فتطربك وتحلق بك في عوالم بعيدة.
أغنية اليوم لا طعم ولا نكهة لها، تنساها بمجرد الاستماع إليها، لأنها لا تثير فيك أي شيء.
ومع الأسف، هذا هو حال الأغنية المغربية منذ بداية الثمانينات! والمفارقة الغريبة أن لدينا عازفين ممتازين، وملحنين ومغنين جيدين، ولكن النتيجة عكس ذلك تماما. أصبح المنطق التجاري هو السائد، والرداءة هي التي تسيطر على المنتوج الغنائي.
* من يتحمل المسؤولية في هذا التردي؟
ـ المسؤولية يتقاسمها المسؤولون عن الإذاعة والتلفزيون بدرجة أولى، باعتبار دور هذا الجهاز في البث والترويج لبعض الألوان الموسيقية دون غيرها، وهنا يأتي أيضا دور الإعلام الذي يتعين عليه أن يفرق بين ما هو أصيل وجميل، وما هو سيئ ودخيل على المشهد الفني والموسيقي المغربي.
* أنا والحسن الثاني: سهرات لا تنسى
* بحكم اقترابك من الملك الراحل الحسن الثاني في بعض المناسبات، كيف كنت تراه؟
ـ لم يخسر المغرب والعالم في الحسن الثاني، زعيما سياسيا محنكا، فحسب، ولكن خسرا فيه كذلك الإنسان المثقف والرجل المتذوق، والفنان الخلاق، والمسؤول المتفهم الذي لا يبخل أبدا بالتشجيع والمساندة لكل صاحب موهبة، أو صاحب مشروع أدبي أو فني.
* أين كان يتجلى هذا الاهتمام الملكي؟
ـ في الاستفسار عن أحوال الفنانين والتساؤل عن جديدهم، وفي تقديرهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا، كما يتجلى أيضا في إصغائه للشعر والموسيقى ومواكبة تطورات الساحة الفنية المغربية.
ذات مرة، وفي إحدى المناسبات، نادى على الشاعر الغنائي فتح الله المغاري، وخاطبه قائلا: «أنت كاتب جيد للكلمات، فلماذا لا تتعامل مع الملحنين والمغنين، بدل أن تقوم بالتلحين والغناء لنفسك فقط؟ إن هذا التعاون الفني سيعطي كلماتك وقعا أكثر قوة في أذن المستمع».
وقد بلغ من اهتمام الملك الراحل الحسن الثاني بالفن والفنانين، ان استقدم كبار الفنانين من المشرق العربي إلى المغرب، كالموسيقار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وفايزة أحمد، ليكون هناك نوع من التلاقح والتبادل والاحتكاك الفني بينهم وبين نظرائهم وزملائهم من الفنانين المغاربة.
والحسن الثاني هو الذي اقترح على المطربة صباح أن تغني بصوتها الأغنية الشائعة «ما أنا إلا بشر»، لعبد الوهاب الدكالي، فحققت انتشارا واسعا، في ذلك الوقت على كل الألسنة.
لقد كانت للحسن الثاني رؤية واضحة لدور الفن في التقارب بين الشعوب، والرفع من مستوى التحضر على جميع المستويات.
* هل لمست فعلا انه كان عازفا موسيقيا كما يقال عنه؟
ـ هذا صحيح إلى حد كبير، وعندما يكون مزاجه رائقا، فإنه يمسك بآلة «الاكورديون» ويشرع في العزف عليها أمامنا، نحن أفراد الفرقة الموسيقية، ببراعة متناهية، تثير الإعجاب.
كانت عنده أيضا، من الناحية الموسيقية أيضا، ميزة أخرى، يتصف بها، وهي إجادته التامة لضبط الإيقاع.
وكم من مرة فاجأنا، في بعض السهرات الموسيقية، باندماجه وسط المجموعات الغنائية الشعبية مثل عيساوة وكناوة وجيلالة، ثم يأخذ في النقر على آلة ضبط الإيقاع.
* هل كانت للحسن الثاني مبادرات نحوك، عززت مسارك الفني؟
ـ لا أنسى فضله أبدا علي. إن أياديه البيضاء امتدت لتشمل جميع الفنانين بعطفه وعنايته السامية.
أتذكر هنا أنه هو الذي تفضل بطبع كتاب لي بعنوان «المستظرف في قواعد الموسيقى المغربية» على حسابه الخاص. وتلك حكاية جديرة بأن تروى.
ذات أمسية موسيقية، كان الموسيقار محمد عبد الوهاب في ضيافته، فاقتربت منه، وعرضت عليه فكرة إصدار الكتاب، فوافق على الفور.
قال له الموسيقار: «هذا الفنان يجب تشجيعه، لتعزيز المكتبة الموسيقية بمؤلفه الذي سيبقى مرجعا للباحثين والدارسين. ويا ريت لو نتوفر في مصر على أمثاله». وبالمناسبة كتب لي الموسيقار عبد الوهاب كلمة بخط يده، كلها إشادة وتنويه بشخصي المتواضع.
أتذكر أيضا أن الملك الراحل الحسن الثاني اختار لي عدة أعمال شعرية، وطلب مني بحسه الموسيقي تلحينها، ومن بينها قصيدة «يا من يرى في الضمير ويسمع» للإمام الشطيبي، وكان معجبا بحمولتها الدينية والصوفية.
وهو الذي سلمني أيضا بيده الكريمة قصيدة «يا رسول الله خذ بيدي» لعبد القادر الجيلاني قصد صياغتها في قالب موسيقي.
* أنا وأم كلثوم: حين تحرك الهرم
* بالمناسبة، ما هي حكاية وصول هذه الأنشودة الدينية بتوقيعك إلى صوت أم كلثوم، التي لا تغني عادة، لغير الملحنين المصريين؟
ـ الحكاية حدثت بالصدفة. في سنة 1968، حلت أم كلثوم ضيفة على المغرب. وأقام الأمير الراحل مولاي عبد الله وحرمه السيدة لمياء الصلح حفل عشاء على شرفها في قصرهما، دعانا إليه نحن أعضاء «الجوق الوطني» لتنشيطه موسيقيا من خلال تقديم بعض الفقرات والموشحات. قبل بداية الحفل، سألنا الأمير الراحل عن محتويات البرنامج الفني، أخبره أحد الأعضاء، وهو الفنان ابراهيم القادري، بالعمل الموسيقي الغنائي الجديد، موشح «يا رسول الله خذ بيدي» الذي كنت قد انتهيت من تلحينه، تلبية لطلب جلالة الملك الحسن الثاني.
استحسن الأمير الراحل الفكرة، وشرعنا في تقديم الأنشودة، فاسترعى انتباهي أن أم كلثوم تنصت إلى الأغنية باهتمام شديد، ونادت على أحد أعضاء المجموعة الصوتية ليسمعها كلمات القصيدة.
وفجأة وقفت من مكانها كالهرم، وتقدمت نحو الفرقة الموسيقية في لحظة مؤثرة بالنسبة لي، ارتبكت شخصيا خلالها، فقدت توازني، وغابت الأوتار عن عيوني، وأنا أرى وأسمع أم كلثوم بتاريخها الفني، وصوتها الساحر، تنشد معنا في اندماج غنائي: «يا رسول الله خذ بيدي».
* في رأيك ما الذي جعل مطربة في حجم أم كلثوم تتأثر بتلك الأنشودة، وتسجلها بصوتها، في سابقة فنية فريدة من نوعها؟
ـ أعتقد جازما، كما قال الدكتور المهدي المنجرة، ان الشحنة الروحية والنفحة الدينية اللتين تعبق بهما الأبيات الشعرية للقصيدة، هما اللتان أثرتا في كملحن، وأثرتا فيها كمطربة، تتذوق الكلمة القوية المعبرة عن جوارح النفس البشرية في علاقتها مع الخالق عز وجل.
* هل غنتها في مناسبة أخرى؟
ـ نعم، غنتها مرة ثانية في سهرة بمراكش، وسجلها التلفزيون المغربي صورة وصوتا، ولكن ضاع هذا التسجيل النادر، كما ضاعت أعمال فنية أخرى تاريخية لكثير من الفنانين قلما يجود بها الزمن، وكل ذلك بفعل الإهمال.
* ولكن الإذاعة المغربية ما زالت تذيعها؟
ـ التسجيل الصوتي الذي تبثه الإذاعة المغربية لأنشودة «يا رسول الله خذ بيدي» بصوت أم كلثوم، هو من أرشيفي الخاص، وأنا الذي قدمته لها!
* أنا والكتابة، التوثيق للموسيقى
* ماذا عن مؤلفاتك الموسيقية؟
ـ أبحاثي ومؤلفاتي تروم أساسا، تقريب الموسيقى بتاريخها وقواعدها من المتلقي، سواء كان دارسا لها، أو مجرد هاو أو مستمع أو عاشق، بعد أن لمست خصاصا في هذا المجال. وقد كان هاجسي، ولا يزال، هو إثراء المكتبة الموسيقية المغربية بمراجع تاريخية تسجل لتطور الحركة الفنية في المغرب، بمختلف وجوهها وروادها ورموزها.
أول كتاب لي كان عن «القانون في الموسيقى المغربية»، ويشمل التعريف بهذه الآلة وخصائصها وتاريخها وأساليب العزف على أوتارها.
الكتاب الثاني: «المستظرف في قواعد الفن والموسيقى»، وكما هو واضح من عنوانه، فإنه يتطرق إلى مبادئ الموسيقى وأسس تلقينها للأجيال الجديدة. والحمد لله أن جهدي لم يذهب سدى، بدليل أنه مقرر ضمن المناهج التعليمية في معاهد الموسيقى.
الكتاب الثالث: «أضواء على الموسيقى المغربية»، ويؤرخ للإرهاصات الأولى للفنانين المغاربة الرواد الذي كان لهم شرف البداية والتأسيس.
الكتاب الرابع: «الموسيقى المغربية»، وهو بمثابة سجل توثيقي للموسيقى المغربية، بكل إيقاعاتها وتكويناتها، وقد تمت ترجمته إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية تعميما وتوسيعا لدائرة انتشاره في العالم، ليفهم الغرب أن لنا، نحن العرب، رصيدا حضاريا وتاريخيا في الموسيقى.
الكتاب الخامس: «الإيقاع والمقامات»، ويتضمن كل الإيقاعات والأوزان المختلفة التي يزخر بها المغرب.
الكتاب السادس: «الثلاثي، الرباعي، الخماسي»، ويضم بين دفتيه عددا من المقطوعات الموسيقية القديمة منها والحديثة، مدونة بـ«النوطة» الموسيقية، حفاظا عليها من الاندثار.
أما الكتاب السابع: «جل ترى المعاني»، فإنه يؤرخ لجزء من سيرتي الذاتية ومسيرتي الفنية وأسفاري حول العالم، إضافة إلى صور الموسيقيين الذين تمتعت برفقتهم في هذا الدرب الفني الطويل.
* أين وصل مشروعك المتمثل في إنشاء متحف فني لجيل الرواد من الفنانين المغاربة الأوائل؟
ـ المشروع جاهز بكل محتوياته من لوحات تشكيلية وأدوات موسيقية، وصور فوتوغرافية قديمة، وكتب ومراجع للموسيقى بمختلف اللغات، جمعتها خلال رحلاتي إلى الخارج.
وقد كاتبت عدة جهات أعرض عليها المشروع، بغرض تبنيه، وما زلت أنتظر تحقيق وعودها ليصبح رهن إشارة الزائرين والباحثين، وأرجو ان يطيل الله في عمري، حتى يتحقق هذا الحلم.
* أنا وادريس جطو: تشابه في الملامح
* ما هو أطرف موقف عشته أخيرا؟
ـ لست أدري لماذا يقول البعض ان ملامح وجهي تتشابه كثيرا مع ملامح وجه السيد ادريس جطو، الوزير الأول. وقد حدث لي أخيرا ما يثبت هذا الالتباس. فقد كنت في جولة في المدينة القديمة، ومررت بمحاذاة بائعين متجولين، يفرشان بضاعتهما على الرصيف، فانبرى أحدهما يقول للآخر مداعبا: «ها هي الفرصة سانحة أمامك لطلب الحصول على رخصة طاكسي!».
* ماذا كان جوابك؟ ـ قلت لهما في داخلي ساخرا: لم أجدها لنفسي، فبالأحرى تسليمكما إياها! لقد اعتقدا أنني أنا الوزير الأول! وانفجر صالح الشرقي ضاحكا، وهو يختم حديث الذكريات !
* توفي أبي وأمي وأنا في السابعة من عمري.. ولجأت إلى ميتم خيري في الدار البيضاء * الحسن الثاني اقترح على المطربة صباح أن تغني بصوتها أغنية «ما أنا إلا بشر» لعبد الوهاب الدكالي فحققت انتشارا واسعا
التقاه في الرباط: بوشعيب الضبار
رغم أنه باحث وملحن ومؤلف موسيقي، فإنه اكتسب شهرته من إجادته التامة لعزف آلة القانون. فاسم الفنان صالح الشرقي تنطبق عليه تماما، صفة «أشهر من نار على علم»، فهو عصي على التقديم، لغزارة عطائه وبهاء حضوره على الساحة الفنية المغربية، لذلك يحار المرء في الإمساك بتجربته، وهو الذي يجر وراءه تاريخا موسيقيا كبيرا، حيث ساهم، لسنين طويلة، إلى جانب رفاقه القدامى في جوق الإذاعة والتلفزيون، في خلق الزمن الجميل للأغنية المغربية في لحظة التأسيس. يكفي أن أم كلثوم غنت من ألحانه أغنية تحمل توقيعه وبصمته الموسيقية، وأن الموسيقار محمد عبد الوهاب أشاد به وبعبقريته في الموسيقى، وامتلاكه لناصية التأليف في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني.
«الشرق الأوسط» التقت به في أمسية رمضانية، وأجرت معه هذا الحديث المفعم بالذكريات:
* كيف بدأت رحلتك مع آلة القانون؟
ـ أنا في الحقيقة لم أكن عازفا على القانون، بل على آلة العود.
* ما هو سبب التحول إذن؟
ـ في فترة الدراسة الفنية، كان هناك زميل في القسم، هو الذي يتدرب على آلة القانون، ولكنه ضعيف في الحفظ، ولا يستوعب الدرس جيدا، فكلفني أستاذ الحصة بالمراجعة معه، مقابل مكافأة صغيرة. استحسنت الفكرة، واقترحت على زميلي استبدال الآلتين، هو يأخذ العود، وأنا أتولى العزف على القانون، مع التخلي عن المكافأة التي كانت تسمح لي بالدخول إلى السينما. وهكذا بدأ الرحلة التي ما زالت مستمرة حتى الآن.
* من هو أستاذك ومكتشفك؟
ـ المرحوم الأستاذ أحمد زنبير، الذي قدم لي كل أشكال الدعم والمساندة، بعد أن لمس ميلي الشديد وشغفي الكبير بالموسيقى.
ثم تتلمذت أيضا على يد أستاذ فرنسي اسمه جاك بيكار، وفيما بعد سنحت لي الظروف بالاستفادة أيضا من الفنان المغربي الراحل أحمد البيضاوي، رئيس الجوق الوطني.
* ماذا يمثل القانون بالنسبة لك؟
ـ أحمد الله كثيرا لأنه ألهمني وهداني إلى اختيار القانون، الذي يشكل بالنسبة لي الرفيق والصديق الوفي الذي أبثه كل ما أحس به من مواجع وأحاسيس. ونظرا لهذه العلاقة الوطيدة فأنا منهمك هذه الأيام، في إصلاح وترميم قانون قديم دخل المغرب، عام 1916، أتى به المرحوم مرسي بركات، رئيس «الجوق العصري» في عهد الملك الراحل محمد الخامس.
إنني أقوم بمعالجته حتى يحس هو الآخر أن له صديقا يرعاه كي تعود إليه الحياة، ويصدح بالأنغام من جديد.
* هل أصبح القانون مهددا بالاندثار في زمن الإيقاع الموسيقي السريع؟
ـ هذا صحيح، وقد بدأت مؤشرات اندثاره تترسخ يوما بعد يوم، وتنبئ بالاستغناء عنه، بعد أن استولى «اللورغ» على مكانته، لقدرته على التلاؤم مع الموسيقى الخفيفة.
ويبدو أن عصر القانون قد رحل إلى الأبد، فهو كمكون أساسي من مكونات فرق الأوكسترا، لا ينسجم إلا مع الموسيقى الكلاسيكية والطرب الحقيقي والموسيقى العربية على اختلاف تلويناتها، من قصائد وأدوار وموشحات، وغيرها، وكلها آخذة في التراجع عن الحلبة لفائدة هذا النوع الموسيقي العصري الصاخب.
* يبدو أنك من معارضي أغاني «الفيديو كليب» العربية؟
ـ أغاني «الفيديو كليب» جنت على الذوق العربي العام، وعلى الشباب العربي أخلاقيا وفنيا بسبب الفضائيات التي لم تأخذ من الغرب سوى القشور.
شخصيا، لا أسمح لنفسي برؤية هذا المنكر الذي يتجسد في مغنيات رأس مالهن الوحيد هو الكشف عن مفاتنهن والتمايل بغنج ودلال، في شرفات غرف النوم وشواطئ البحر.
هذا فن ممسوخ، بل إنه من أقبح أشكال الانحطاط والانحلال والإباحية في طبق من الإبهار والإغراء.
* ماذا تقول عن المطربة نانسي عجرم؟ ـ نانسي عجرم؟ من هي؟ صدقني، أنا لا أعرفها، لقد تكاثرت الأصوات لدرجة أن ذاكرة المرء لم تعد قادرة على استيعاب هذا الطوفان من الصور والألوان.
في الماضي كان ظهور أي صوت جديد يشكل حدثا فنيا في حد ذاته، وحين تذيع الإذاعة أغنية جديدة لنور الهدى أو عبد الحليم أو أم كلثوم، أو فريد الأطرش، تجد الكل يرددها في مشارق الأرض ومغاربها.
اليوم نسمع ونرى عشرات الأغاني في اليوم الواحد من دون أن نلمس أي جهد، أو إشراقة فنية إبداعية في واحدة منها على الأقل.
* لو عاشت أم كلثوم، حتى الآن، هل يمكن لها أن تجد لنفسها موقع قدم وسط هذه الزحمة؟
ـ لو امتد العمر بأم كلثوم، لماتت بالحسرة، إزاء بيع أغانيها، في أسطوانات مدمجة، مقرصنة بأرخص الأثمان، وتباع في القفف (السلات) في الأسواق الشعبية والساحات العمومية، والموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب نفسه لو شاهد أشرطته الموسيقية المقرصنة، كذلك، تتداولها أيدي الباعة المتجولين بأرخص الأثمان، لسارع إلى الانتحار على الرصيف، حزنا على مآل الفن، في عصر القرصنة والاتجار في الموسيقى في غياب تفعيل الضوابط القانونية، التي تضع حدا لهذا الانتهاك الصارخ لحقوق الملكية الفكرية والفنية، لفنانين كرسوا حياتهم للعطاء الفني، لينتهي المطاف بعصارة إبداعهم على قارعة الطريق، وبرخص التراب.
* هل هذه الظاهرة هي التي جعلتك تحجم عن الاستمرار في تسجيل أعمالك الموسيقية؟
ـ تماما، لقد انتهيت منذ مدة من إنجاز أول عمل موسيقي مغربي فريد من نوعه، ولكنني ما زلت مترددا في إخراجه إلى حيز الوجود، مخافة أن يتعرض للقرصنة التي أصبحت آفة من آفات العصر، وأداة من أدوات القتل الممنهج للفنان، لأنها تمسه أساسا في مورد رزقه الوحيد.
* ما هي طبيعة هذا العمل الموسيقي الجديد؟
ـ هو، في الحقيقة، مشروع موسيقي كبير، اشتغلت عليه فترة طويلة من الوقت، بحثا وتنقيبا واستكشافا لمختلف الأشكال والأنواع والإيقاعات والمعزوفات في الموسيقى الأندلسية والتراث الشعبي والفولكلور المغربي.
إنه توثيق وتسجيل حي للموسيقى المغربية في أزهى فتراتها، على امتداد السنين والأجيال، وهو في شكل «ألبوم»، يضم ثلاث أسطوانات مدمجة، مع أوراق تعريفية بكل المقامات والتجارب والإبداعات المغربية.
وحتى الآن أتحاشى طبعه أو توزيعه على حسابي خشية أن أضيع في حقوقي، وقد عرضت المشروع على بعض الجهات لتتبناه وتتولى توزيعه.
* أنا والحياة : مرارة اليتيم
* لو عاد بك شريط الذكريات إلى الوراء، ماذا يخطر في بالك عن طفولتك؟ ـ طفولتي كانت قاسية ومؤلمة جدا ومفعمة بالمعاناة، بسبب وفاة أبي وأمي، في عام واحد، وعمري لا يتجاوز سبع سنين. وكان من الطبيعي أن ألجأ إلى ميتم خيري في الدار البيضاء. وأنا فخور بتلك الفترة من حياتي، ولا أخفيها أبدا من سيرتي الذاتية، ففي تلك المرحلة بدأ وجداني يتشكل موسيقيا.
كان الملجأ بمثابة مدرسة أو معهد لاكتساب جميع أنواع المعارف والمهارات والتكوين والتأهيل المهني في جميع المجالات من صناعة وموسيقى وغيرهما.
هناك كبرت قامتي، وكبرت معي رغبتي في التحدي وإثبات الذات، ولكنني لا أنكر رغم ذلك أن شعور الحرمان من الدفء العائلي والعاطفي لازمني فترة طويلة من مراهقتي إلى حين بلوغي فترة الشباب وتحمل المسؤولية.
كانت تنتابني دوما رعشة خوف من الموت والمستقبل. ولم يتبدد هذا الإحساس إلا بعد اقتراني بشريكة حياتي الفقيدة رحمة السحيمي، التي أنستني مرارة اليتم.
كانت امرأة فاضلة، تقدس الحياة الأسرية ولم تحاسبني يوما، عن غيابي، بل كان لسانها يلهج دائما بالدعاء لي بالسلامة في أسفاري. وبعد رحيلها عن هذه الدنيا الفانية أحسست بفقدان جزء كبير من نفسي وعمري، بعد أن أدت دورها كزوجة، وأم، وربة بيت، كما يجب، في توفير الظروف الملائمة والتنشئة الصالحة لأفراد الأسرة.
* لماذا ظل أبناؤك بعيدين عن الموسيقى؟
ـ أنا أشكر الله الذي هداهم إلى الاكتفاء فقط بسماعها من دون ممارستها، فاختار كل واحد منهم طريقه في الحياة بمحض إرادته، وفقا لرغبته وإرادته. وأنا مسرور جدا باختياراتهم، وأدعو لهم دوما بالتوفيق.
* هل مارست يوما ما، عملا غير الموسيقى؟
ـ نعم، حدث ذلك في الأربعينات. كان الوقت وقت حرب وصراعات، وانعدمت الحفلات والسهرات، فتوسط لي أستاذي المرحوم أحمد زنيبر، لأشتغل في النسيج وحياكة الأثواب، ريثما تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها وتستأنف الحياة العادية مسارها.
اندمجت بسرعة في أجواء المهنة الجديدة، وتدرجت فيها إلى أن أصبحت بمثابة رئيس لورشة تضم أكثر من 120 صانعا. وأتذكر أن مدخولي كان جيدا، ويفوق مرتب وزير.
وبعد انتهاء الحرب، حملت آلتي الموسيقية معي لتخفف عني غربتي، وانتقلت للعمل في أحد مصانع النسيج بفرنسا. هناك كانت لي عدة اتصالات بموسيقيين عرب مهاجرين استفدت من التواصل معهم والاحتكاك الفني بهم.
إلا أن هذه الرحلة لم تدم طويلا، إذ سرعان ما قررت الاستجابة لنداء خفي في الأعماق، يلح علي في العودة إلى المغرب، سنة 1950.
وتزامن وصولي مع غرس النواة الأولى لتكوين جوق موسيقي عصري، بمبادرة من الأستاذين عبد النبي الجيراري، وعبد القادر الراشدي، والمطرب اسماعيل أحمد. فكانت الانطلاقة معهم كعازف موسيقي على آلة القانون ولم تتوقف إلا بعد إحالتي على التقاعد.
ومن باب الإنصاف، الاعتراف بأن الجوق الوطني التابع لدار الإذاعة، كان بالنسبة لي بمثابة معهد جديد تعلمت فيه الكثير على يد موسيقيين كبار. ويحز في نفسي اليوم أن أرى هذا الجوق، وهو يتلاشى تدريجيا، ولم يبق فيه سوى عازفين موسيقيين يعدون على أصابع اليد الواحدة. البعض تقاعد، والبعض رحل إلى العالم الآخر، ولم يتم تعويض مناصبهم أبدا بوجوه جديدة وشابة للحفاظ على استمرارية شعلة هذه الفرقة الموسيقية، التي أغنت الوجدان المغربي بأعمال وقطع موسيقية، ما زالت خالدة حتى الآن.
* لماذا هذا الحنين الدائم للأغنية المغربية القديمة عند المستمعين؟
ـ أغنية الأمس كانت أفضل وأجمل وأكثر صدقا وأصالة وإبداعا وجودة. تستمع إليها، فتطربك وتحلق بك في عوالم بعيدة.
أغنية اليوم لا طعم ولا نكهة لها، تنساها بمجرد الاستماع إليها، لأنها لا تثير فيك أي شيء.
ومع الأسف، هذا هو حال الأغنية المغربية منذ بداية الثمانينات! والمفارقة الغريبة أن لدينا عازفين ممتازين، وملحنين ومغنين جيدين، ولكن النتيجة عكس ذلك تماما. أصبح المنطق التجاري هو السائد، والرداءة هي التي تسيطر على المنتوج الغنائي.
* من يتحمل المسؤولية في هذا التردي؟
ـ المسؤولية يتقاسمها المسؤولون عن الإذاعة والتلفزيون بدرجة أولى، باعتبار دور هذا الجهاز في البث والترويج لبعض الألوان الموسيقية دون غيرها، وهنا يأتي أيضا دور الإعلام الذي يتعين عليه أن يفرق بين ما هو أصيل وجميل، وما هو سيئ ودخيل على المشهد الفني والموسيقي المغربي.
* أنا والحسن الثاني: سهرات لا تنسى
* بحكم اقترابك من الملك الراحل الحسن الثاني في بعض المناسبات، كيف كنت تراه؟
ـ لم يخسر المغرب والعالم في الحسن الثاني، زعيما سياسيا محنكا، فحسب، ولكن خسرا فيه كذلك الإنسان المثقف والرجل المتذوق، والفنان الخلاق، والمسؤول المتفهم الذي لا يبخل أبدا بالتشجيع والمساندة لكل صاحب موهبة، أو صاحب مشروع أدبي أو فني.
* أين كان يتجلى هذا الاهتمام الملكي؟
ـ في الاستفسار عن أحوال الفنانين والتساؤل عن جديدهم، وفي تقديرهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا، كما يتجلى أيضا في إصغائه للشعر والموسيقى ومواكبة تطورات الساحة الفنية المغربية.
ذات مرة، وفي إحدى المناسبات، نادى على الشاعر الغنائي فتح الله المغاري، وخاطبه قائلا: «أنت كاتب جيد للكلمات، فلماذا لا تتعامل مع الملحنين والمغنين، بدل أن تقوم بالتلحين والغناء لنفسك فقط؟ إن هذا التعاون الفني سيعطي كلماتك وقعا أكثر قوة في أذن المستمع».
وقد بلغ من اهتمام الملك الراحل الحسن الثاني بالفن والفنانين، ان استقدم كبار الفنانين من المشرق العربي إلى المغرب، كالموسيقار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وفايزة أحمد، ليكون هناك نوع من التلاقح والتبادل والاحتكاك الفني بينهم وبين نظرائهم وزملائهم من الفنانين المغاربة.
والحسن الثاني هو الذي اقترح على المطربة صباح أن تغني بصوتها الأغنية الشائعة «ما أنا إلا بشر»، لعبد الوهاب الدكالي، فحققت انتشارا واسعا، في ذلك الوقت على كل الألسنة.
لقد كانت للحسن الثاني رؤية واضحة لدور الفن في التقارب بين الشعوب، والرفع من مستوى التحضر على جميع المستويات.
* هل لمست فعلا انه كان عازفا موسيقيا كما يقال عنه؟
ـ هذا صحيح إلى حد كبير، وعندما يكون مزاجه رائقا، فإنه يمسك بآلة «الاكورديون» ويشرع في العزف عليها أمامنا، نحن أفراد الفرقة الموسيقية، ببراعة متناهية، تثير الإعجاب.
كانت عنده أيضا، من الناحية الموسيقية أيضا، ميزة أخرى، يتصف بها، وهي إجادته التامة لضبط الإيقاع.
وكم من مرة فاجأنا، في بعض السهرات الموسيقية، باندماجه وسط المجموعات الغنائية الشعبية مثل عيساوة وكناوة وجيلالة، ثم يأخذ في النقر على آلة ضبط الإيقاع.
* هل كانت للحسن الثاني مبادرات نحوك، عززت مسارك الفني؟
ـ لا أنسى فضله أبدا علي. إن أياديه البيضاء امتدت لتشمل جميع الفنانين بعطفه وعنايته السامية.
أتذكر هنا أنه هو الذي تفضل بطبع كتاب لي بعنوان «المستظرف في قواعد الموسيقى المغربية» على حسابه الخاص. وتلك حكاية جديرة بأن تروى.
ذات أمسية موسيقية، كان الموسيقار محمد عبد الوهاب في ضيافته، فاقتربت منه، وعرضت عليه فكرة إصدار الكتاب، فوافق على الفور.
قال له الموسيقار: «هذا الفنان يجب تشجيعه، لتعزيز المكتبة الموسيقية بمؤلفه الذي سيبقى مرجعا للباحثين والدارسين. ويا ريت لو نتوفر في مصر على أمثاله». وبالمناسبة كتب لي الموسيقار عبد الوهاب كلمة بخط يده، كلها إشادة وتنويه بشخصي المتواضع.
أتذكر أيضا أن الملك الراحل الحسن الثاني اختار لي عدة أعمال شعرية، وطلب مني بحسه الموسيقي تلحينها، ومن بينها قصيدة «يا من يرى في الضمير ويسمع» للإمام الشطيبي، وكان معجبا بحمولتها الدينية والصوفية.
وهو الذي سلمني أيضا بيده الكريمة قصيدة «يا رسول الله خذ بيدي» لعبد القادر الجيلاني قصد صياغتها في قالب موسيقي.
* أنا وأم كلثوم: حين تحرك الهرم
* بالمناسبة، ما هي حكاية وصول هذه الأنشودة الدينية بتوقيعك إلى صوت أم كلثوم، التي لا تغني عادة، لغير الملحنين المصريين؟
ـ الحكاية حدثت بالصدفة. في سنة 1968، حلت أم كلثوم ضيفة على المغرب. وأقام الأمير الراحل مولاي عبد الله وحرمه السيدة لمياء الصلح حفل عشاء على شرفها في قصرهما، دعانا إليه نحن أعضاء «الجوق الوطني» لتنشيطه موسيقيا من خلال تقديم بعض الفقرات والموشحات. قبل بداية الحفل، سألنا الأمير الراحل عن محتويات البرنامج الفني، أخبره أحد الأعضاء، وهو الفنان ابراهيم القادري، بالعمل الموسيقي الغنائي الجديد، موشح «يا رسول الله خذ بيدي» الذي كنت قد انتهيت من تلحينه، تلبية لطلب جلالة الملك الحسن الثاني.
استحسن الأمير الراحل الفكرة، وشرعنا في تقديم الأنشودة، فاسترعى انتباهي أن أم كلثوم تنصت إلى الأغنية باهتمام شديد، ونادت على أحد أعضاء المجموعة الصوتية ليسمعها كلمات القصيدة.
وفجأة وقفت من مكانها كالهرم، وتقدمت نحو الفرقة الموسيقية في لحظة مؤثرة بالنسبة لي، ارتبكت شخصيا خلالها، فقدت توازني، وغابت الأوتار عن عيوني، وأنا أرى وأسمع أم كلثوم بتاريخها الفني، وصوتها الساحر، تنشد معنا في اندماج غنائي: «يا رسول الله خذ بيدي».
* في رأيك ما الذي جعل مطربة في حجم أم كلثوم تتأثر بتلك الأنشودة، وتسجلها بصوتها، في سابقة فنية فريدة من نوعها؟
ـ أعتقد جازما، كما قال الدكتور المهدي المنجرة، ان الشحنة الروحية والنفحة الدينية اللتين تعبق بهما الأبيات الشعرية للقصيدة، هما اللتان أثرتا في كملحن، وأثرتا فيها كمطربة، تتذوق الكلمة القوية المعبرة عن جوارح النفس البشرية في علاقتها مع الخالق عز وجل.
* هل غنتها في مناسبة أخرى؟
ـ نعم، غنتها مرة ثانية في سهرة بمراكش، وسجلها التلفزيون المغربي صورة وصوتا، ولكن ضاع هذا التسجيل النادر، كما ضاعت أعمال فنية أخرى تاريخية لكثير من الفنانين قلما يجود بها الزمن، وكل ذلك بفعل الإهمال.
* ولكن الإذاعة المغربية ما زالت تذيعها؟
ـ التسجيل الصوتي الذي تبثه الإذاعة المغربية لأنشودة «يا رسول الله خذ بيدي» بصوت أم كلثوم، هو من أرشيفي الخاص، وأنا الذي قدمته لها!
* أنا والكتابة، التوثيق للموسيقى
* ماذا عن مؤلفاتك الموسيقية؟
ـ أبحاثي ومؤلفاتي تروم أساسا، تقريب الموسيقى بتاريخها وقواعدها من المتلقي، سواء كان دارسا لها، أو مجرد هاو أو مستمع أو عاشق، بعد أن لمست خصاصا في هذا المجال. وقد كان هاجسي، ولا يزال، هو إثراء المكتبة الموسيقية المغربية بمراجع تاريخية تسجل لتطور الحركة الفنية في المغرب، بمختلف وجوهها وروادها ورموزها.
أول كتاب لي كان عن «القانون في الموسيقى المغربية»، ويشمل التعريف بهذه الآلة وخصائصها وتاريخها وأساليب العزف على أوتارها.
الكتاب الثاني: «المستظرف في قواعد الفن والموسيقى»، وكما هو واضح من عنوانه، فإنه يتطرق إلى مبادئ الموسيقى وأسس تلقينها للأجيال الجديدة. والحمد لله أن جهدي لم يذهب سدى، بدليل أنه مقرر ضمن المناهج التعليمية في معاهد الموسيقى.
الكتاب الثالث: «أضواء على الموسيقى المغربية»، ويؤرخ للإرهاصات الأولى للفنانين المغاربة الرواد الذي كان لهم شرف البداية والتأسيس.
الكتاب الرابع: «الموسيقى المغربية»، وهو بمثابة سجل توثيقي للموسيقى المغربية، بكل إيقاعاتها وتكويناتها، وقد تمت ترجمته إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية تعميما وتوسيعا لدائرة انتشاره في العالم، ليفهم الغرب أن لنا، نحن العرب، رصيدا حضاريا وتاريخيا في الموسيقى.
الكتاب الخامس: «الإيقاع والمقامات»، ويتضمن كل الإيقاعات والأوزان المختلفة التي يزخر بها المغرب.
الكتاب السادس: «الثلاثي، الرباعي، الخماسي»، ويضم بين دفتيه عددا من المقطوعات الموسيقية القديمة منها والحديثة، مدونة بـ«النوطة» الموسيقية، حفاظا عليها من الاندثار.
أما الكتاب السابع: «جل ترى المعاني»، فإنه يؤرخ لجزء من سيرتي الذاتية ومسيرتي الفنية وأسفاري حول العالم، إضافة إلى صور الموسيقيين الذين تمتعت برفقتهم في هذا الدرب الفني الطويل.
* أين وصل مشروعك المتمثل في إنشاء متحف فني لجيل الرواد من الفنانين المغاربة الأوائل؟
ـ المشروع جاهز بكل محتوياته من لوحات تشكيلية وأدوات موسيقية، وصور فوتوغرافية قديمة، وكتب ومراجع للموسيقى بمختلف اللغات، جمعتها خلال رحلاتي إلى الخارج.
وقد كاتبت عدة جهات أعرض عليها المشروع، بغرض تبنيه، وما زلت أنتظر تحقيق وعودها ليصبح رهن إشارة الزائرين والباحثين، وأرجو ان يطيل الله في عمري، حتى يتحقق هذا الحلم.
* أنا وادريس جطو: تشابه في الملامح
* ما هو أطرف موقف عشته أخيرا؟
ـ لست أدري لماذا يقول البعض ان ملامح وجهي تتشابه كثيرا مع ملامح وجه السيد ادريس جطو، الوزير الأول. وقد حدث لي أخيرا ما يثبت هذا الالتباس. فقد كنت في جولة في المدينة القديمة، ومررت بمحاذاة بائعين متجولين، يفرشان بضاعتهما على الرصيف، فانبرى أحدهما يقول للآخر مداعبا: «ها هي الفرصة سانحة أمامك لطلب الحصول على رخصة طاكسي!».
* ماذا كان جوابك؟ ـ قلت لهما في داخلي ساخرا: لم أجدها لنفسي، فبالأحرى تسليمكما إياها! لقد اعتقدا أنني أنا الوزير الأول! وانفجر صالح الشرقي ضاحكا، وهو يختم حديث الذكريات !
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء نوفمبر 13, 2013 5:40 pm من طرف anas
» أعلام قبيلة كدميوة
الثلاثاء سبتمبر 03, 2013 7:26 am من طرف Admin
» قبيلة كدميــوة
الثلاثاء سبتمبر 03, 2013 7:23 am من طرف Admin
» دار اختبارٍ وبلاء
الجمعة فبراير 15, 2013 5:23 am من طرف Admin
» إنّ الدّنيا دار لا تخلو من الشِّدَّة واللأواء
الجمعة فبراير 15, 2013 5:21 am من طرف Admin
» نصيحة للمسلم
الجمعة فبراير 15, 2013 5:17 am من طرف Admin
» ملف يحنوي على عدة دروس مفيدة في تعلم المو سيقة
الثلاثاء يناير 01, 2013 3:00 pm من طرف Admin
» رد: الفنان المغربي الملتزم صلاح الطويل ....الطــير الحــر
الجمعة ديسمبر 07, 2012 9:47 am من طرف Admin
» الفنان المغربي الملتزم صلاح الطويل....البنك الدولــي
الجمعة ديسمبر 07, 2012 9:44 am من طرف Admin